فصل: تفسير الآيات (71- 75):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} فيه أوجهٌ:
أحدها: أن {ما} نافيةٌ فالوقفُ على {يَخْتار}.
والثاني: {ما} مصدريةٌ أي: يختار اختيارَهم، والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعولِ به أي: مُختارهم.
الثالث: أَنْ تكونَ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ أي: ما كان لهم الخيرةُ فيه كقولِه: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] أي: منه.
وجَوَّزَ ابنُ عطية أَنْ تكونَ {كان} تامةً و{لهم الخِيَرَةُ} جملةٌ مستأنفةٌ. قال: ويَتَّجه عندي أن تكون {ما} مفعولةً إذا قدَّرْنا كان التامةَ أي: إنَّ اللهَ يختار كلِّ كائنٍ. و{لهم الخيرةُ} مستأنفٌ. معناه تعديدُ النِّعمِ عليهم في اختيار الله لهم لو قَبلوا. وجعل بعضُهم في كان ضميرَ الشأن وأنشد:
أمِنْ سُمَيَّةَ دَمْعُ العين تَذْرِيْفُ ** لو كان ذا منك قبل اليوم معروفُ

ولو كان ذا اسمَها لقال: معروفًا. وابنُ عطيةَ منع ذلك في الآية قال: لأنَّ تفسيرَ الأمرِ والشأنِ لا يكون بجملةٍ فيها محذوف. قلت: كأنه يريد أنَّ الجارَّ متعلقٌ بمحذوفٍ. وضميرُ الشأنِ لا يُفَسَّر إلاَّ بجملةٍ مصرَّح بجزْأَيْها. إلاَّ أنَّ في هذا نظرًا إنْ أراده؛ لأن هذا الجارَّ قائمٌ مقامَ الخبرِ. ولا أظنُّ أحدًا يمنعُ هو السلطان في البلد وهي هندٌ في الدار.
والخِيَرَةُ مِنَ التخيير، كالطِّيَرَةِ من التَّطَيُّرِ فيُستعملان استعمالَ المصدر. وقال الزمخشري: {ما كان لهم الخيرةُ} بيانٌ لقوله: {ويختار} لأنَّ معناه: ويختار ما يشاءُ، ولهذا لم يَدْخُلِ العاطفُ. والمعنىؤ: أنَّ الخِيَرَةَ للهِ تعالى في أفعالِه، وهو أعلمُ بوجوهِ الحكمة فيها ليس لأحدٍ مِنْ خَلْقِه أَنْ يختار عليه. قتل: لم يَزَلِ الناسُ يقولون: إن الوقفَ على {يختار} والابتداءَ ب {ما} على أنها نافيةٌ هو مذهبُ أهلِ السنةِ. ونُقِل ذلك عن جماعةٍ كأبي جعفرٍ وغيرِه، وأنَّ كونَها موصولةً متصلةً ب {يختار} غيرَ موقوفٍ عليه مذهبُ المعتزلة. وهذا الزمخشريُّ قد قَّررَ كونَها نافيةً، وحَصَّل غرضَه في كلامِه، وهو موافقٌ لكلامِ أهلِ السُّنةِ ظاهرًا، وإنْ كان لا يريده. وهذا الطبريُّ مِنْ كبار أهل السنة مَنَعَ أَنْ تكونَ [ما] نافيةً قال: لئلا يكون المعنى: أنَّه لم تكنْ لهم الخيرةُ فيما مضى، وهي لهم فيما يُستقبل، وأيضًا فلم يتقدَّمْ نفيٌ. وهذا الذي قاله ابنُ جريرٍ مَرْوِيٌّ عن ابن عباس. وقال بعضُهم: ويختار لهم ما يشاء من الرسلِ، ف {ما} على هذا واقعةٌ على العقلاء. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}.
يختار ما يشاء ومَنْ يشاء من جملة ما يخلق. ومَنْ ليس إليه شيءٌ من الخَلْقِ، فما له والاختيار؟!
الاختيار للحقِّ استحقاقُ عِزٍّ يوجِبُ أن يكون ذلك له، لأنَّه لو لم يُنَفِّذْ مشيئتَه واختيارَه لم يكن بوصف العِزِّ، فَمَنْ بَقِيَ عن مُرادِه لا يكون إلاَّ ذليلًا؛ فالاختيارُ للحقِّ نعتُ عِزٍّ، والاختيارُ للخَلْقِ صفةُ نَقْصٍ ونعتُ بلاءٍ وقصور؛ فاختيارُ العَبْدِ غيرُ مُبَارَكٍ عليه لأنَّه صفةٌ هو غيرُ مُسْتَحِقٍّ لها، ومَنْ اتصف بما لا يليق به افتضح في نَفْسِه، قال قائلُهم:
ومعالٍ إذا ادَّعاها سواه ** لَزِمَتْه جِنَايةُ السُّرَّاقِ

والطينةُ إذا ادَّعَتْ ما هو صفة الحقِّ أظهرت رعونتَها، فما للإنسان والاختيار؟! وما للمملوكِ والمِلْك؟! وما للعبيدِ والتصدُّر في دَسْتِ الملوك؟!
قال تعالى: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)}.
ولِمَ لا وقد قال: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]؟ فالعِلْمُ- الذي لا يَعْزُبُ عنه معلومٌ- نعتُ من لم يَزَلْ، والإبداع من العَدَمِ إلى الوجود ينفرِّدُ بالقدرة عليه لم يَزَلْ.
{وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)}.
{لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} تَوَحَّدَ بِعِزِّ هيبته، وتَفَرَّدَ بجلال ربوبيته، لا شبيهَ يساويه، ولا نظيرَ يُضاهيه. {لَهُ الْحَمْدُ} استحقاقًا على عَطِيَّتِه، وله الشكر استيجابًا على نعمته؛ ففي الدنيا المحمودُ اللَّهُ، وفي العقبى المشكورُ اللَّهُ؛ فالإحسان من اللَّهِ لأن السلطانَ للَّهِ، والنعمةُ من اللَّهِ لأنَّ الرحمةَ للًَّهِ، والنصرةُ من اللَّهِ لأنَّ القدرةَ للَّهِ. اهـ.

.التفسير الإشاري:

قال نظام الدين النيسابوري:
التأويل: {ولقد آتينا موسى} القلب مقام القرب والوحي والمكالمة وكشف العلوم بعد هلاك فرعون النفس وصفاتها {لعلهم يتذكرون} إذ كانوا في عالم الأرواح مستمعين خطاب {ألست بربكم} [الأعراف: 172] {وما كنت} في غرب العدم بل كنت في شرق الوجود في عالم الأرواح {إذ قضينا إلى موسى} أمر اتخاذ العهد منه أن يؤمن بك كقوله: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين} [آل عمران: 81] وما كنت في عالم الشهادة {ولكنا أنشأنا قرونًا} في عالم الشهادة {فتطاول عليهم العمر} فاحتجوا بالنفس وصفاتها ونسوا تلك العهود والمواثيق {وما كنت} مقيمًا {في أهل مدين} كشعيب وموسى، إذ أخذت منهما الميثاق أن يؤمنا بك {ولكنا كنا مرسلين} للرسل الذين أخذنا الميثاق منهم.
ولولا أن تصيبهم التقدير، ولولا أن مقتضى العناية الأزلية في حق هذه الأمة ودفع حجتهم علينا فإنا ناديناهم وهم في العدم فأسمعناهم نداءنا ولم نوفقهم للإِجابة {فلما جاءهم الحق} يعني محمدًا. وفي أن له رتبة أن يقول أنا الحق لفنائه عن نفسه بالكلية وبقائه بربه وكل من سواه فليس له أن يقول ذلك إلا بطريق المتابعة {لولا أوتي مثل ما أوتي} لولم يكونوا محتجبين بكفرهم عن رؤية كماله لقالوا: لولا أوتي مثل ما أوتي محمد من مقام المحبة ومقام لي مع الله وقت {بكتاب من عند الله هو أهدى منهما} يعني الكتاب المشتمل على العلم اللدني فإنه أهدى إلى الحضرة من الكتب الموقوفة على السماع والمطالعة، ومن لم تكن له هذه الرتبة فإنه محجوب عن الحضرة بهوى نفسه كما قال: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم} {الذين آتيناهم} حقيقة {الكتاب} في عالم الرواح {من قبل} نزوله في عالم الأشباح {هم به يؤمنون} في عالم الصورة ولهذا قالوا {إنا كنا من قبله مسلمين} ولذلك قال: {يؤتون أجرهم مرتين} أي في العالمين {بما صبروا} على مخالفات الهوى وموافقات الشرع {ويدرؤن} بالأعمال الصالحات ظلمة المعاصي، أو بحسنة الذكر صدأ حب الدنيا عن مرآة القلوب، أو بحسنة نفي ما سوى الله شرك الوجود المجازي {ومما رزقناهم} من الوجود المجازي {ينفقون} في طلب الوجود الحقيقي: {وإذا سمعوا اللغو} وهو طلب ماسوى الله {أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا} في طلب الوجود الحقيقي {ولكم أعمالكم} في طلب الفاني {إنك لا تهدي من أحببت} وذلك أن للقلب بابين: أحدهما إلى النفس والجسد وهو مفتوح ابدًا، والآخر إلى الروح والحضرة وهو مغلوق لا يفتحه إلا الفتاح الذي بيده كل مفتاح كما قال: {أم على قلوب أقفالها} [محمد: 24] وقال: {إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا} [الفتح: 1] {وهو أعلم بالمهتدين} الذين اصابهم رشاش النور {وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف} بجذبات الألوهية من ارض الأنانية {أو لم نمكن لهم حرمًا آمنًا} في مقام الهوية {يجبى إليه ثمرات} حقائق {كل شيء رزقًا} من العلوم اللدنية {ولكن أكثرهم لا يعلمون} ذوق العلم اللدني {لم تسكن من بعدهم إلا قليلًا} أي لم تسكن في قرى القلوب الفاسد استعدادها {إلا قليلًا} من نور الإسلام بعبور الخواطر الروحانية في الأحايين {وكنا نحن الوارثين} بأن رجع نور الإسلام إلى الحضرة بعد فساد الاستعداد {حتى يبعث في أمها} أي روحها لأن القلب من متولدات الروح {رسولًا} من وارد نفحات الحق الوعد الحسن للعوام الجنة، وللخواص الرؤية وللأخص الوصول والوصال كما أوحى إلى عيسى تجوّع ترنى تجرد تصل إلي {أغويناهم كما غوينا} راعوا طريقة الأدب ولم يقولوا كما أغويتنا مثل ما قال إبليس {فبما أغويتني} [الأعراف: 16] أي {أغويناهم} بتقديريك {كما أغوينا} بقضائك وهذا من خصوصية تكريم بني آدم بحفظ البعداء طريقة الأدب كما يحفظها أهل القرب على بساط الكرامة {ورأوا العذاب} يعني {لو كانوا يهتدون} لرأوا عذاب الفطام عن المألوفات والشهوات والله أعلم بالخفيات. اهـ.

.تفسير الآيات (71- 75):

قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما قامت على القدرة الشاملة والعلم التام وأنه الإله وحده إن وحدوا أو الحدوا هذه الأعلام على هذا النظام، أقام دليلًا دالًا على ذلك كله بما اجتمع فيه من العلم والحكمة وتمام القدرة، منبهًا على وجوب حمده مفصلًا لبعض ما يحمد عليه، فقال مقدمًا الليل لأن آيته عدمية، وهي أسبق: {قل} لمن ربما عاندوا في ذلك، منكرًا عليهم ملزمًا لهم، وعبر بالجمع لأنه أدل على الإلزام، أعظم في الإفحام، فقال: {أرءيتم} أي أخبروني {إن جعل الله} أي الملك الأعلى نظرًا إلى مقام العظمة والجلال {عليكم الليل} الذي به اعتدال حر النهار {سرمدًا} أي دائمًا، وقال: {إلى يوم القيامة} تنبيهًا على أنه مما لا يتوجه إليه إنكار {من إله غير الله} العظيم الشأن الذي لا كفوء له.
ولما كان النور نعمة في نفسه، ويعرف به خالقه، صرح به وطوى أثره فقال: {يأتيكم بضياء} أي يولد نهارًا تنتشرون فيه، ولقوة إعلامه بالقدرة وتعريفه بالله عبر بهذا دون يؤتيكم ضياء، ولما كان الليل محل السكون ومجمع الحواس، فهو أمكن للسمع وأنفذ للفكر، قال تعالى: {أفلا تسمعون} أي ما يقال لكم إصغاء وتدبر، كما يكون لمن هو في الليل فينتفع بسمعه من أولي العقل {قل أرءيتم إن جعل الله} أي الذي له الأمر كله بجلاله وباهر كماله {عليكم النهار} الذي توازن حرارته رطوبة الليل فيتم بهما صلاح النبات، وغير ذلك من جميع المقدرات {سرمدًا} أي دائمًا، من السرد، وهو المتابعة بزيادة الميم مبالغة فيه {إلى يوم القيامة} أي الذي لا يسمع عاقلًا إنكاره {من إله غير الله} الجليل الذي ليس له مثيل، وهو على كل شيء وكيل.